قال الكاتب المصري المعروف مصطفى أمين، وكان ممن أدخلوا السجن فيزمن جمال عبدالناصر عام 1965م، قال يروي قصته داخل السجن:
"كان من بين وسائل التعذيب التي لجأوا إليها أن أصدروا قرارا بمنعي من الأكل والشرب، والحرمان من الأكل مؤلم ولكنه محتمل، ولكن العطش عذاب لا يحتمل وبخاصة في أشهر الصيف والحرارة شديدة جدا وأنا مريض بالسكر ومرضى السكر يشربون الماء بكثرة، وفي اليوم الأول تحايلت على الأمر، دخلت إلى دورة المياه فوجدت فيها إناء للاستنجاء وشربت من مياه الاستنجاء فوجدت الإناء خاليا ووجدت بدل الماء ورق تواليت، ومع شدة العطش اضطررت أن أشرب ماء البول حتى ارتويت، وفي اليوم الثالث لم أجد بولا أشربه!!
واشتد بي العطش فأحسست بعذاب شديد مثل ضرب السياط، وكنت أسير في زنزانتي كالمجنون، لساني جف وحلقي جف فكنت أهوي إلى الأرض أحيانا ألحسها لعل الحارس نسي نقطة ماء وهو يغسل البلاط!!
وشعرت أنني قد أشرفت على الهلاك، وبينما أنا في حالتي هذه لا أدري ماذا أفعل أدور حول نفسي وأنا أترنح رأيت باب الزنزانة يفتح في هدوء ورأيت يدا تمتد في ظلام الزنزانة تحمل كوب ماء بارد مثلج، فزعت وتصورت أنني جننت، بدأت أرى شبحا، لا يمكن أن يكون هذا ماء... إنه سراب...ومددت يدي ولمست الكوب فوجدته باردا مثلجا فعلا وقبضت على الكوب بأصابعي المرتعشة، ورأيت حامل الكوب يضع إصبعه على فمه وكأنه يقول لي: لا تتكلم.
شربت الماء ولكنه ليس كالمياه التي شربتها من قبل ومن بعد، لقد كان ألذ ماء شربته في حياتي، لو كان معي مليون جنيه في تلك اللحظة لأعطيتها للحارس المجهول.
عادت الروح مع هذا الكوب، لقد أغناني هذا الكوب عن الطعام بل أغناني عن الحرية، أحسست بسعادة لم أعرفها طوال حياتي، كل ذلك من أجل كوب ماء مثلج.
اختفى الحارس المجهول بسرعة كما ظهر بسرعة وأغلق باب الزنزانة بهدوء، ورأيت ملامح الحارس المجهول شاب أسمر قصير القامة، ولكنني أحسست أنه أحد الملائكة، إنني رأيت عناية الله في الزنزانة.
ومرت أيام التعذيب من دون أن أرى الحارس المجهول، ثم نقلت من غرفة التعذيب في الدور السفلي، وكان يغيرون الحراس كل يوم، وذات يوم رأيت أمامي الحارس المجهول وكنا على انفراد وقلت له هامسا: لماذا فعلت ما فعلت؟! لو ضبطوك كانوا سيفصلونك.
قال باسما: يفصلوني فقط!! دول كانوا يقتلوني رميا بالرصاص.
قلت: ما الذي جعلت تقوم بهذه المغامرة؟!
قال: إنني أعرفك جيدا وأنت لا تعرفني... منذ تسع سنوات تقريبا أرسل فلاح من الجيزة خطابا لك يقول فيه أنه فلاح في إحدى القرى وأن أمنية حياته أن يشتري بقرة وأنه مكث سبع سنوات يقتصد من قوته وقوت عياله حتى جمع مبلغا، ثم باع مصاغ زوجته واشترى بالمبلغ بقرة، وكان أكثر أهل القرية تقوى وورعا وصلاة وصياما، وبعد ستة أشهر فقط ماتت البقرة، وفي ليلة القدر بعد ذلك بشهور دق باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح ودخلت محررة من جريدتك "أخبار اليوم" تجر وراءها بقرة، وكانت "أخبار اليوم" قد اعتادت أن تحقق أحلام مئات من قرائها في ليلة القدر من كل عام.
وسكت الحارس المجهول لحظة ثم قال: هذا الفلاح الذي أرسلتم له بقرة منذ تسع سنوات هو أبي.
ألم أقل لك أن عناية الله كانت معي في الزنزانة(1)!!
هذا العمر الطيب الذي قدم لهذا الفلاح الطيب منذ تسع سنوات كان من نتائجه أن أنقذ حياة هذا الكاتب، ولقد كان كوب ماء بارد في وقت المحنى أغلى ما في الوجود وألذ ما في الدنيا، فليكن عملنا خالصا لله تعالى، والله عز وجل في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وبذل المال وإنفاقه في أوجه الخير له ثمرته الطيبة. فلا بد لمن أنفق في سبل الخير أن يجد جزاء ما بذل ولو بعد حين وقد يكون جزاء عملك الطيب مضاعفا أضعافا كثيرة.
قال تعالى: " وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272)".(2)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنفق يا ابن آدم ينفق عليك"(3).